فصل: 5- أول ما نزل من سورة التوبة وآخر ما نزل فيها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.التنبيه إلى خطأ مشهور:

من الأخطاء المشهورة على ألسنة العامة، وبعض الخاصة ما يزعمونه من أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] هي آخر ما نزل من القرآن، فإنها تدل على إكمال الدين، في ذلك اليوم المشهود، الذي نزلت فيه، وهو يوم عرفة في حجة الوداع، وكان يوم جمعة، ففهموا منه أن إكمال الدين لا يكون إلا بإكمال نزول القرآن الكريم.
والحق: أن هذا الزعم غير صحيح، ولم يقل أحد قط من العلماء إنها آخر ما نزل من القرآن، والإمام السيوطي، وهو الباقعة الذي لا يخفى عليه قول، سرد الأقوال في آخر ما نزل، ولم ينقل عن أحد مثل هذا القول بل نبه على خطئه، وزيفه.
وقد رأيت في الآثار السابقة التي ذكرناها آنفا، أن آية الربا، وآية الكلالة من أواخر القرآن نزولا، بل آية {وَاتَّقُوا يَوْماً...} نزلت بعد: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بأكثر من شهرين، فقد حددت رواية ابن أبي حاتم، أن نزولها كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال مما يجعلنا نقطع بأن: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} ليس آخر القرآن نزولا، وأن هذا الزعم لا نصيب له من الصحة.

.بم يفسر الإكمال في الآية:

وقد يقول لي قائل: وإذا كان الأمر كما ذكرت، فبم تفسر إذا إكمال الدين وإتمام النعمة.
والجواب أن للعلماء المفسرين في فهم الآية رأيين:
الأول: أن المراد بإكمال الدين يومئذ، هو إنجاحه، وإقراره، وإظهاره على الدين كله، ولو كره الكافرون، بفتح مكة، وإتمام حجهم الأكبر ولا شك أن الإسلام في حجة الوداع كان قد ظهرت شوكته وعلت كلمته، وأذل الشرك وأهله، وأجلي المشركون عن البلد الحرام، وانفرد المسلمون بالحج، والطواف بالبيت لم يشاركهم فيهما مشرك، فأي كمال بعد هذا وأي نعمة بعد تلك النعمة وإلى هذا الرأي ذهب العلامة ابن جرير الطبري في تفسيره حيث قال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم، بإقرارهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه، حتى حجه المسلمون، لا يشاركهم المشركون، ثم أيده بما رواه بسنده عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت {براءة} نفي المشركون من البيت، وحج المسلمون، لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان من تمام النعمة {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وهذا الرأي في تفسير الآية لا ينفي نزول آيات بعدها في الحلال والحرام والوعظ والتذكير.
الثاني: أن المراد بإكمال الدين إكمال الأحكام، والحلال، والحرام فلم ينزل بعدها شيء من الفرائض، والتحليل والتحريم روي هذا عن السدي، وجماعة.
وعلى هذا الرأي فلا مانع من نزول آيات بعدها ليست منشئة لأحكام جديدة، بل مقررة لما سبق من الأحكام كآية الربا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وذلك عند من يرى أنها آخر آية نزلت من القرآن فإنها ليست منشئة لتحريم الربا إذ التحريم مستفاد قبل ذلك من آية ال عمران: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وآية البقرة التي هي قبل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وإنما جاءت هذه مقررة ومؤكدة للحرمة.
وكآيات التذكير بالآخرة والوعظ والترغيب والترهيب وذلك مثل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ...} فإنها للتذكير باليوم الآخر والترغيب والترهيب.
ومن ثم يتبين لنا أن الآية كيفما فهمناها وحملناها لا تدل على أنها آخر القرآن نزولا، وهو ما قاله ثقات المفسرين، وأجمع عليه علماء علوم القرآن.

.أمثلة لأوائل وأواخر مقيدة:

هذا الذي قدمناه في البحثين السابقين إنما أريد به الأوائل والأواخر المطلقة، وإن كان التحقيق العلمي دعانا إلى تنزيل بعضها على أنها أوائل وأواخر مقيدة، وكما بحث العلماء في النوع الأول، بحثوا في الأوائل والأواخر المقيدة بمحرم خاص، أو بموضوع خاص، أو بسورة خاصة، أو ببلد معين وقد ذكروا لذلك أمثلة كثيرة منها:

.1- أول ما نزل في الخمر وآخر ما نزل فيها:

فمن ذلك الآيات التي نزلت في الخمر، فأول آية نزلت فيها هي قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} [البقرة: 219] وآخر ما نزل في التحريم قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90] فحرمت الخمر تحريما باتّا، وأراق الناس ما عندهم حتى سالت طرق المدينة.

.2- أول ما نزل في الجهاد وآخر ما نزل فيها:

الجهاد: قيل أول ما نزل فيه قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39- 41].
روى هذا الحاكم في المستدرك عن ابن عباس، وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية قال: أول ما نزل في القتال بالمدينة: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
وقيل: إن أول ما نزل في القتال قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] ذكره الحاكم في الإكليل.
والذي تركن إليه النفس هو الأول؛ إذ فيه التصريح بمبررات الجهاد وبيان حكمته في الإسلام، وأن الغرض منه رد الظلم الواقع عليهم من المشركين، ودفعه وتأمين العقيدة حتى تجد سبيلها إلى القلوب، وتأمين أهلها، ومعتنقيها، وتأمين الدعوة إلى الله حتى لا يطغى الباطل على الحق، والكفر على الإيمان، والشر على الخير، وذكر المبررات، والحكم هو الأليق ببدء التشريع.
أما الآية الثانية فقد ذكر أنها نزلت عام عمرة القضاء، لما خاف المسلمون أن يباغتهم المشركون، فأنزل الله الآية مبينة لهم حلّ الدفاع عن النفس، والقتال في هذا الموطن، وتشريع الجهاد كان في السنة الثانية وبينهما بضع سنوات.
وأما الآية الثالثة فيبعد كونها أول آية؛ لأن سورة {براءة} من أواخر القرآن نزولا كما رواه البخاري عن البراء بن عازب، وهي إلى الترغيب في الجهاد أقرب منها إلى بدء التشريع.
وآخر آية نزلت في شأن الجهاد قوله تعالى: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].

.3- أول ما نزل في شأن القتل وآخر ما نزل فيها:

أول ما نزل في شأن القتل آية الإسراء، وهي قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33].
رواه ابن جرير عن الضحاك.
وآخر آية نزلت فيه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} [سورة النساء: 9].

.4- أول ما نزل في الأطعمة وآخر ما نزل فيها:

أول آية نزلت في الأطعمة بمكة: آية الأنعام وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة الأنعام: 145].
ثم آيتا النحل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً...} [النحل: 114- 115] الآيتين.
وبالمدينة: آية البقرة: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] ثم نزلت آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3].

.5- أول ما نزل من سورة التوبة وآخر ما نزل فيها:

روي عن مجاهد أنه قال: أول ما نزل من سورة التوبة قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ...} [التوبة: 26- 28] الآيات.
وعن مسروق، عن أبي الضحى: إن أول ما نزل من {براءة}: {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...} الآية ثم أنزل الله أولها- أي السورة- ثم أنزل أخرها.
والآيات الأولى نزلت بعد حنين، وأما الآية الثانية، فالظاهر أنها نزلت في تبوك وحنين متقدمة على تبوك، فالراجح هو الأول.
وآخر ما نزل من التوبة هو قوله تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ...} الآيتان، وقد ورد أنهما آخر ما نزل من القرآن وأولنا ذلك: بأنهما آخر ما نزل من براءة.